كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ومعلوم أن أبا داود إذا سكت على حديث، فهو صالح للاحتجاج عنده، كما قدمناه مرارًا. وقد ذكر ابن حجر في الإصابة في ترجمة الحارث بن عمرو المذكور: أن حديثه هذا صححه الحاكم، ولم يتعقب ذلك بشيء. وذكر البخاري هذا الحديث في تاريخه في ترجمة زرارة بن كريم بالسند الذي رواه به أبو داود، ولم يتعقبه بشيء.
ومنها: ما رواه أحمد، وابن أبي شيبة، وإسحاق بن راهويه، وأبو يعلى الموصلي في مسانيدهم والدارقطني في سننه: عن جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت ذات عرق: لأهل العراق من غير شك في الرفع، وقد قدمنا في كلام النووي، والزيلعي، وابن حجر: أن في إسناده ابن لهيعة، والحجاج بن أرطاة، وكلاهما ضعيف.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: لا شك أن رواية الحجاج بن أرطاة معتبر بها صالحة لاعتضاد غيرها، ومن أجل ذلك أخرج له مسلم في صحيحه مقرونًا بغيره، كما قاله الذهبي في الميزان، وقد أثنى عليه غير واحد، وروى عنه شعبة وقال: اكتبوا حديث حجاج بن أرطاة، وابن إسحاق، فإنهما حافظان. وقال فيه الثوري: ما بقي أحد أعرف بما يخرج من رأسه منه، وقال فيه حماد بن زيد: كان أقهر عندنا لحديثه من سفيان. وقال فيه الذهبي في الميزان: هو أحد الأعلام على لين في حديثه. وقال فيه الذهبي: وأ: ثر ما نقم عليه التدليس، وفيه تيه لا يليق بأهل العلم، وقال فيه ابن حجر في التقريب: صدوق كثير الخطأ والتدليس. اهـ.
وعلى كل حال: فلا شك في الاعتبار بروايته، وصلاحها لتقوية غيرها، وابن لهيعة لا شك في أن روايته تعضد غيرها، وقد أخرج له مسلم أيضًا مقرونًا بغيره. وقد قدمنا الكلام عليه.
وعلى كل حال فرواية الحجاج وابن لهيعة عاضدة للرواية الصحيحة. ومنها الحديث الذي رواه عطاء مرسلًا كما قدمنا في كلام النووي، وقد قال: إنه رواه الشافعي والبيهقي بإسناد حسن ومرسل عطاء هذا في توقيت النبي صلى الله عليه وسلم: ذات عرق لأهل العراق محتج به عند الأئمة الأربعة. أما مالك، وأبو حنيفة، وأحمد، فالمشهور عنهم الاحتجاج بالمرسل كما قدمناه مرارًا. وأما الشافعي: فقد قدمنا عن النووي: أنه يعمل بمرسل التابعي لكبير إن قال به بعض الصحابة أو أكثر أهل العلم، ومرسل عطاء هذا أجمع على العمل به الصحابة، فمن بعدهم إلى غير ذلك من الأدلة العاضدة، لأن توقيت ذات عرق لأهل العراق من النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن حجر في فتح الباري بعد أن ساق بعض طرق حديث توقيت النبي صلى الله عليه وسلم ذات عرق لأهل العراق ما نصه: وهذا يدل على أن للحديث أصلًا، فلعل من قال: إنه غير منصوص لم يبلغه، ورأى ضعف الحديث باعتبار أن كل طريق لا يخلو من مقال. انتهى محل الغرض منه.
وقد بينا أن بعض روايات هذا الحديث صحيحة، ولا يضرها انفراد بعض الثقات بها.
الأمر الثاني: من الأمرين المذكورين في أول هذا المبحث: هو إنما ثبت في صحيح البخاري من حديث ابن عمر، مما يدل على أن توقيت ذات عرق، لأهل العراق باجتهاد من عمر، كما قدمناه لا يعارض هذه الأدلة التي ذكرناها، على أنه منصوص، لاحتمال أن عمر لم يبلغه ذلك، فاجتهد فوافق اجتهاده توقيت النبي صلى الله عليه وسلم، وهو رضي الله عنه معروف أنه وافقه الوحي في مسائل متعددة، فلا مانع من أن تكون هذه منها لا شرعًا ولا عقلًا ولا عادة. وأما إعلال بعضهم حديث ذات عرق، بأن العراق لم تكن فتحت يومئذ فقد قال فيه ابن عبد البر: هي غفلة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقت المواقيت لأهل النواحي قبل الفتوح، لأنه علم أنها ستفتح، فلا فرق في ذلك بين الشام والعراق. انتهى بواسطة نقل ابن حجر في الفتح.
فروع تتعلق بهذه المسألة:
الفرع الأول: اعلم أن المواقيت الخمسة التي ذكرنا، مواقيت أيضًا لكل من مر عليها من غير أهلها، وهو يريد النسك حجًا كان أو عمرة، ففي حديث ابن عباس المتفق عليه، الذي ذكرناه في أول هذا المبحث بعد ذكر المواقيت المذكورة «فهي لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهنَّ لمن كان يريد الحج والعمرة» هذا لفظ البخاري في صحيحه من رواية ابن عباس: وفي لفظ في البخاري، عن ابن عباس: «هُنَّ لأهلهن ولكل آتٍ أتى عليهنَّ من غيرهم ممن أراد الحج والعمرة» وكلا اللفظين في صحيح مسلم من رواية ابن عباس وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم.
الفرع الثاني: اعلم أن من كان مسكنه أقرب إلى مكة من الميقات، فميقاته من موضع سكناه، ففي حديث ابن عباس المتفق عليه المذكور آنفًا: «فمن كان دونهن فمهله من أهله» وفي رواية «فمن كان دونهن فمن أهله» وفي لفظ «ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ» كل هذه بالألفاظ في صحيح البخاري من حديث ابن عباس مرفوعًا، واللفظان الأخيران منها في صحيح مسلم أيضًا من حديث ابن عباس، وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم.
الفرع الثالث: اعلم أن أهل مكة يهلون من مكة، وفي حديث ابن عباس المتفق عليه المذكور آنفًا «حتى أهل مكة، يهلون منها»، وفي لفظ: «حتى أهل مكة يهلون من مكة»، وكلا اللفظين في الصحيحين من حديث ابن عباس المذكور، وهذا بالنسبة إلى الإهلال بالحج، لا خلاف فيه بين أهل العلم إلا ما ذكره بعضهم من أن المكي يجوز له أن يحرم من أي موضع من الحرم، ولو خارجًا عن مكة وهو ظاهر السقوط لمخالفته للنص الصريح، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأما إهلال المكي بالعمرة، فجماهير أهل العلم على أنه لا يهل بالعمرة من مكة، بل يخرج إلى الحل، ويحرم منه، وهو قول الأئمة الأربعة وأصحابهم، وحكى غير واحد عليه الإجماع.
قال صاحب تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق في الفقه الحنفي: الوقت لأهل مكة الحرم في الحج، والحل في العمرة للإجماع على ذلك. انتهى منه.
وقال ابن قدامة في المغني في الكلام على ميقات المكي: وإن أراد العمرة فمن الحل، لا نعلم في هذا خلافًا. انتهى منه.
وقال ابن حجر في فتح الباري في الكلام على ميقات أهل مكة: وأما المعتمر فيجب عليه أن يخرج إلى أدنى الحل، كما سيأتي بيانه في أبواب العمرة.
قال المحب الطبري: لا أعلم أحدًا جعل مكة ميقانًا للعمرة. انتهى محل الغرض منه.
وقال ابن القيم: إن أهل مكة لا يخرجون من مكة للعمرة، وظاهر صنيع البخاري أنه يرى إحرامهم من مكة بالعمرة، حيث قال: باب مهل أهل مكة للحج والعمرة، ثم ساق بسنده حديث ابن عباس المذكور، ومحل الشاهد عنده منه المطابق للترجمة هي قوله: «حتى أهل مكة من مكة» فقوله في الترجمة باب مهل أهل مكة للحج والعمرة، وإيراده لذلك، حتى أهل مكة يهلون من مكة، دليل واضح على أنه يرى أن أهل مكة يهلون من مكة للعمرة والحج معًا كما هو واضح من كلامه.
وإذا علمت ذلك، فاعلم أن دليل هذا القول هو عموم حديث ابن عباس المتفق عليه. الذي فيه حتى أهل مكة يهلون من مكة، والحديث عام بلفظه في الحج والعمرة، فلا يمكن تخصيص العمرة منه إلا بدليل يجب الرجوع إليه، وأما القائلون: بأنه لابد أن يخرج إلى الحل، وهم جماهير أهل العلم كما قدمنا، فاستدلوا بدليلين.
أحدهما: ما ثبت في الصحيحين، وغيرهما من: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عبد الرحمن بن أبي بكر أن يخرج بعائشة في عمرتها من مكرة إلى النعيم وهو أدنى الحل. قالوا: فلو كان الإهلال من مكة بالعمرة سائغًا لأمرها بالإهلال من مكة، وأجاب المخالفون عن هذا: بأن عائشة آفاقية والكلام في أهل مكة لا في الآفاقيين، وأجاب الآخرون عن هذا بأن الحديث الصحيح، دل على أن من مر ميقات لغيره كان ميقاتًا له، فيكون ميقات أهل مكة في عمرتهم هو ميقات عائشة في عمرتها.
لأنها صارت معهم عند ميقاتهم.
الدليل الثاني: هو الاستقراء وقد تقرر في الأصول: أن الاستقراء من الأدلة الشرعية، ونوع الاستقراء المعروف عندهم بالاستقراء التام حجة بلا خلاف، وهو عند أكثرهم دليل قطعي، وأما الاستقراء الذي ليس بتام وهو المعروف عندهم بإلحاق الفرد بالأغلب فهو حجة ظنية عند جمهورهم. والاستقراء التام المذكور هو: أن تتبع الأفراد، فيوجد الحكم في كل صورة منها، ما عدا الصورة التي فيها النزاع، فيعلم أن الصورة المتنازع فيها حكمها حكم الصور الأخرى التي ليست محل نزاع.
وإذا علمت هذا فاعلم أن الاستقراء التام أعني تتبع أفراد النسك، دل على أن كل نسك من حج أو قران أو عمرة، غير صورة النزاع لابد فيه من الجمع بين الحل والحرم، حتى يكون صاحب النسك زائرًا قادمًا على البيت من خارج كما قال تعالى: {يَأْتُوكَ رِجَالًا وعلى كُلِّ ضَامِرٍ} [الحج: 27] الآية. فالمحرم بالحج أو القران من مكة لابد أن يخرج إلى عرفات: وهي في الحل، والآفاقيون يأتون من الحل لحجهم وعمرتهم، فجميع صور النسك غير صورة النزاع، لابد فيها من الجمع بين الحل والحرم، فيعلم بالاستقراء التام أن صورة النزاع لابد فيها من الجمع أيضًا بين الحل والحرم، وإلى مسلألة الاستقراء المذكورة أشار في مراقي السعود بقوله:
ومنه الاستقراء بالجزئي ** على ثبوت الحكم للكلي

فإن يعم غير ذي الشقاق ** فهو حجة بالاتفاق

إلخ.
وقوله: فإن يعم البيت: يعني أن الاستقراء إذا عم الصور كلها غير صورة النزاع فهو حجة في صورة النزاع بلا خلاف، والشقاق الخلاف. فقوله: غير ذي الشقاق: أي غير محل النزاع.
واعلم أن جماعة من أهل العلم يقولون: إن أهل مكة ليس لهم التمتع، ولا القران، فالعمرة في التمتع والقران ليست لهم، وإنما لهم أن يحجوا بلا خلاف والعمرة منهم في غير تمتع، ولا قران جائزة عند جل من لا يرون عمرة التمتع والقران لأهل مكة، وممن قال لا تمتع ولا قران لأهل مكة: أبو حنيفة وأصحابه، ونقله بعض الحنفية عن ابن عمر وابن عباس، وابن الزبير، وهو رأي البخاري رحمه الله كما ذكره في صحيحه، ومنشأ الخلاف في أهل مكة هل لهم تمتع أو قران أو لا؟ هو اختلاف العلماء في مرجع الإشارة في قوله تعالى: {ذلك لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي المسجد الحرام} [البقرة: 196] فالذين قالوا: لأهل مكة تمتع وقرأن كغيرهم، قالوا: الإشارة راجعة إلى الهدي والصوم، ومفهومه أن من كان أهله حاضري المسجد الحرام إذا تمتع فلا هدي عليه ولا صوم، والذين قالوا: ليس لأهل مكة تمتع ولا قران، قالوا: الإشارة راجعة إلى قوله: {فَمَنْ تَمَتَّعَ} [البقرة: 196] أي ذلك التمتع {لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي المسجد الحرام} أما من كان أهله حاضري المسجد الحرام، فلا تمتع له والقران داخل في اسم التمتع في عرف الصحابة، كما تقدم إيضاحه، والذين قالوا هذا القول زعموا أن في الآية بعض القرأئن الدالة عليه، منها التعبير باللام في قوله: {لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ} الآية، لأن اللام تستعمل فيما لنا لا فيما علينا، والتمتع لنا أن نفعله بخلاف الهدي، فهو علينا وكذلك الصوم عند العجز عن الهدي، ومنها: أنه جمع في الإشارة بين اللام والكاف، وذلك يدل على شدة البعد والتمتع أبعد في الذكر من الهدي والصوم.
وأجاب المخالفون: بأن الإشارة ترجع إلى أقرب مذكور وهو الهدي، والصوم، وأن الإشارة إلى القريب إشارة البعيد أسلوب عربي معروف، وقد ذكره البخاري عن أبي عبيدة معمر بن المثنى ومنه قوله: {ذَلِكَ الكتاب} [البقرة: 2] أي هذا الكتاب. لأن الكتاب قريب، ولذا تكثر الإشارة إليه بإشارة القريب كقوله: {إِنَّ هذا القرآن يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9] وقوله: {وهذا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ} [الأنعام: 92، 155] الآية وأمثال ذلك كثيرة في القرآن، ومن إطلاق إشارة البعد على القريب قول خفاف بن ندبة السلمي:
فإن تَكُ خيلي قد أصيب صَميمها ** فعمدًا على عيني يتمَّمتً مالكا

أقول له والرُّمح يأطر مَتْنُه ** تأمَّل خفافًا إنني أنا ذَلِكا

فقد أشار إلى نفسه إشارة البعيد، ومعلوم أنه لا يمكن أن يكون بعيدًا من نفسه قالوا: واللام تأتي بمعنى على كقوله: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7] أي فعليها وقوله تعالى: {وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ} [الإسراء: 109] أي على الأذقان، ومنه قول الشاعر، وقد قدمناه في أول سورة هود:
هتكت له بالرمح جيبَ قميصهِ ** فخرَّ صريعًا لليديْن ولِلْفَم

وفي الحديث: «واشترطي لهم الولاء» أو أن المراد ذلك الحكم بالهدي والصوم مشروع، لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أقرب أقوال أهل العلم عندي للصواب في هذه المسألة: أن أهل مكة لهم أن يتمتعوا، ويقرنوا وليس عليهم هدي، لأن قوله تعالى: {فَمَن تَمَتَّعَ بالعمرة إِلَى الحج} [البقرة: 196] الآية عام بلفظه في جميع الناس من أهل مكة، وغيرهم ولا يجوز تخصيص هذا العموم، إلا بمخصص يجب الرجوع إليه، وتخصيصه بقوله: {ذلك لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي المسجد الحرام} [البقرة: 196] لا يجب الرجوع إليه، لاحتمال رجوع الإشارة إلى الهدي والصوم، لا إلى التمتع كما أوضحنا. اهـ. وأن المكي إذا أراد العمرة خرج إلى الحل فأحرم منه، والدليل على هذا هو ما قدمناه من إرسال النَّبي صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها، مع أخيها لتحرم بعمرتها من التنعيم، وهو نص متفق على صحته، وقول من قال: إن النَّبي أرسلها مع أخيها لتلك العمرة تطييبًا لخاطرها، لا تقوم به حجة ألبتة، لأن النَّبي صلى الله عليه وسلم لا يأمرها بعمرة، وهي نسك وعبادة إلا على الوجه المشروع لعامة الناس لاستواء جميع الناس في أحكام التكليف، فعمرتها المذكورة نسك قطعًا، والحالة التي أمر النَّبي صلى الله عليه وسلم بأداء ذلك النسك عليها، لا شك أنها مشروعة لجميع الناس إلا فيما قام دليل يجب الرجوع إليه بالخصوص، وقصة عمرة عائشة المذكورة لم يثبت فيها دليل على التخصيص والعلم عند الله تعالى.
الفرع الرابع: اعلم أن من سلك إلى الحرم طريقًا لا ميقات فيها فميقاته المحل المحاذي، لأقرب المواقيت إليه، كما يدل عليه ما قدمناه في صحيح البخاري، من توقيت عمر ذات عرق لأهل العراق لمحاذاتها قرن المنازل. وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم.
الفرع الخامس: قد قدمنا في حديث النسائي أن الجحفة ميقات لأهل مصر وأهل الشام، وعليه فميقات أهل مصر منصوص، والحديث المذكور قد قدمنا أنه صحيح الإسناد.
الفرع السادس: أظهر قولي أهل العلم عندي: أن أهل الشام، ومصر مثلًا إذا قدموا المدينة، فيمقاتهم من ذي الحليفة، وليس لهم أن يؤخروا إحرامهم إلى ميقاتهم الأصلي الذي هو الجحفة، أو ما حاذاها، لظاهر حديث ابن عباس المتفق عليه: فَهُنَّ لهن، ولمن أتى عليهن من غير أهلهن. وقس على ذلك.
الفرع السابع: اعلم أن جمهور أهل العلم على أن من جاوز ميقاته من المواقيت المذكورة غير محرم، وهو يريد النسك أن عليه دمًا، ودليله في ذلك أثر ابن عباس، الذي قدمناه موضحًا: «من نسي من نسكه شيئًا أو تكره فليهرق دمًا»، قالوا: ومن جاوز الميقات غير محرم، وهو يريد النسك فقد ترك من نسكه شيئًا، وهو الإحرام من الميقات، فيلزمه الدم.
وأظهر أقوال أهل العلم عندي: أنه إن جاوز الميقات، ثم رجع إلى الميقات، وهو لم يحرم أنه لا شيء عليه، لأنه لم يبتدئ إحرامه، إلا من الميقات، وأنه إن جاوز الميقات غير محرم، وأحرم في حال مجاوزته الميقات، ثم رجع إلى الميقات محرمًا أن عليه دمًا لإحرامه بعد الميقات، ولو رجع إلى الميقات فإن ذلك لا يرفع حكم إحرامه مجاوزًا للميقات. والله تعالى أعلم.
الفرع الثامن: في الكلام على مفهوم قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس المتفق عليه ممن أراد النسك، ومفهومه صادق بصورتين:
إحداهما: أن يمر إنسان على واحد من هذه المواقيت المذكورة وهو لا يريد النسك، ولا دخول مكة أصلًا كالذي يمر بذي الحليفة قاصدًا الشام أو نجدًّا مثلًا وهذه الصورة لا خلاف في أنه لا يلزمه فيها الإحرام، وأن مفهوم قوله: ممن أراد النسك دالًا على أنه لا إحرام عليه في هذه الصورة.
والثانية: هي أن يمر على واحد من هذه المواقيت وهو لا يريد حجًا، ولا عمرة، ولَكِنه يريد دخول مكة، لقضاء حاجة أخرى.
وهذه الصورة اختلف فيها أهل العلم، فقال بعض أهل العلم: لا يجوز لأحد دخول مكة بغير إحرام، ولو كان دخوله لغرض آخر غير النس.
وقال بعضهم: إذا كان دخوله مكة لغرض غير النسك، فلا مانع من دخوله غير محرم، والخلاف في هذه المسألة مشهور بين أهل العلم.